السبت، 9 مايو 2020

تصميم تجربة المستخدم User Experience Design

تصميم الجرافيك أكاديمياً بصورة جديدة - الجزء الأول

عندما أتحدث مع الأشخاص من حولي عن التخصص الذي أدرسه في الجامعة أجد العديد من الأفكار القديمة والمغلوطة أحياناً التي لازالت مترسخة في الأذهان حول طبيعة التخصص والتي تغيرت بشكل جذري في السنوات الأخيرة.
بفضل الله كنت أحد المشاركات في هذا التغيير ولازلت أؤمن بقوة التخصص وقدرته المرنة على التغيير والمساهمة في مجالات العمل المتغيرة. لذا سأتحدث في مقالين عن مثالين لمواد جديدة أضيفت للمنهج مؤخراً قمتُ بتأسيسها وتدريسها لسنتين حتى الآن والتي أتمنى أن تضيف لما هو معروف لديكم عن تصميم الجرافيك ومجاله في سوق العمل 

تصميم تجربة المستخدم User Experience Design  

أحد المواد النظرية الجديدة المضافة لمنهج الجرافيك والتي تدرس علاقة المستفيدين بالتصميم تدرس لطالبات السنة الثالثة. ولعل أكثر سؤال أواجهه من قبل طالبات هذه المادة هو عن علاقتها بالتخصص حيث يعتقد الكثير أنها مفيدة فقط في تصميم الويب أو تطبيقات الجوال لكننا ندرسها من نواحي متعددة تشمل هذه التطبيقات ولا تقتصر عليها. في أولى المحاضرات نتحدث عن مفهوم العلامة التجارية والعمل التجاري والمستخدم، فهم هذه الثلاثية بالإضافة لسياق النظام الاستهلاكي الذي يقوم عليه الاقتصاد هو أساس تصميم تجربة المستخدم. نتطرق بعدها لعدد من الطرق لبحث سلوك المستخدمين ومن ضمنها البحث الإجتماعي والبحث التفاعلي social and action research ونأخذ على ذلك أمثلة بتطبيقات متنوعة ونناقش مالذي يرغب به الأشخاص ومالذي يسهل اقتناعهم بفكرة ما أو تفضيل فكرة دون الأخرى. 
من أجمل الأمثلة التي نتحدث عنها هو متجر أبل التنكري إن صح التعبير وهي تجربة قام بها فريق مختص بالبحث الاجتماعي حيث استغل وجود إصلاحات في فرع متجر أبل في نيويورك وقام بتقمص  شخصية أبل التجارية من شكل واجهة محلها إلى شعارها إلى لغة موظفينها إلى طريقتها في جذب الناس ورغم أن التجربة حدثت في مصعد أمام أحد محطات الأنفاق إلا أن الجمهور صدقها وتقبلها في النهاية دون تذمر رغم أنها غير حقيقية.
هذه المقدمة الملهمة التي نتعرف فيها على سلوك المستخدمين بالإضافة لعدد من النشاطات التي نقوم بها مثل مشاهدة فلم المؤسس The founder وتحليل تجربة المستخدم في مطبخ ماكدونالدز وكتابة بعض التقارير التي نتناول فيها فهم العلامات التجارية المحلية وتفعيلها لمثل هذه المفاهيم. كل هذه المعلومات تقودنا لمعرفة كيف نصمم للمستخدمين وبأبسط الكلمات يتم ذلك بتطبيق مفهوم التعاطف Empathy فحتى أكبر الشركات البحثية في المستقبل مثل ام آي تي MIT تستخدم هذا الأسلوب في فهم مستخدمين المستقبل وهو تماماً ماقامت به في تجربتها البحثية لتطوير المدن لفئة كبار السن.  

المشروع النهائي 

سأتحدث عن المشروع النهائي الذي يلخص مانتعلمه في هذه المادة بطريقة بصرية توضح التطبيق
بعد الحديث عن كل النظريات ودراسة بعض الأمثلة المحلية يأتي المشروع النهائي لينقل الطلاب إلى المستقبل ومايحمله لنا من فرضيات. أطلقت على المشروع اسم: التصميم للمستخدم المستقبلي: مستخدم اكس.
ماهو روتين المستخدم في المستقبل؟ كيف تبدو حياته واهتماماته؟ كيف هو شكل العالم في ذلك الوقت ومالذي يعنيه ذلك بالنسبة للعلامات التجارية؟ وقد وجهت الطالبات لاستغلال الأوضاع الحالية مع كورونا وقراءة المقالات العديدة التي انتشرت مؤخراً عن مستقبل النمط الإستهلاكي للفرد وطبيعة الخدمات المتغيرة بسبب هذه الأزمة في أبحاثهم

يبدأ المشروع بالبحث عن المقالات والدراسات التي تناقش احتمالات المستقبل من تقنيات جديدة واختراعات أو شكل المدن أو سلوكيات يتنبأ بها ثم نأخذ هذه التقنية ونبني عليها سيناريو مستقبلي لشكل مستخدمها. وقد لاحظت تركيز واهتمام أغلب الطالبات على فكرة المستقبل الذي يصبح فيه الواقع الافتراضي والواقع المعزز شيئاً بديهياً يشبه استخدامنا الحالي للإنترنت. بعد ذلك تؤخذ الفكرة وتطبق عليها الوسائل المختلفة التي تعلمناها مثل تصميم شخصيات المستخدمين Personas Design واستخدام المصفوفة التفاعلية لرصد تسلسل التجربة واحتياج المستخدم Touchpoint Matrix وأيضا توقع الحالة النفسية أثناء التجربة Empathy maps وغيرها من وسائل تجربة المستخدم العملية حتى تتشكل الفكرة بقالب واقعي. أجمل جزئية في هذا البحث هو توسيع مدارك طلاب التخصص لعوالم مختلفة قد تكون مثالية أو غاية في السوء وإعطاؤهم فرصة لتشكيل هذا العالم على هيئة خدمة أو منتج يقدمونه للمستخدم المستقبلي وفي نفس الوقت وضعها بشكل واقعي يربطهم بالتطبيق العملي لمثل هذه المفاهيم. ينتهي البحث بعرض التجربة المقترحة للمنتج أو الخدمة من خلال عرض رحلة المستخدم وبعض اللقطات من تفاعله مع الفكرة.
نموذج لتجربة المستخدم من عمل الطالبتين ديمة العريفي ولجين الجهني

نموذج لتجربة المستخدم من عمل الطالبتين شيماء الحمدان وغدير فقيهي

نموذج لتجربة المستخدم من عمل الطالبتين نرجس السكيري ومجد الدوسري

البعد المستقبلي 

يبدو هذا مختلفاً عن السائد لكن بينما يعتقد الكثير أن وظيفة المتخصص في التصميم الجرافيكي تقتصر على الجماليات والتنسيق أو الرسم، فهي تتعدى ذلك وتأسسه لفهم المستفيدين من هذه التصاميم حتى يعمل على تلبية احتياجهم وإيصال المعلومات لهم بلغة وشكل واضحين والذي يقودنا بالتالي لتحقيق الهدف الأكبر من التصميم وهو التواصل الفعال بين الفكرة والمستخدم بالشكل الصحيح.
تعلم مثل هذه المهارات المرتبطة بإدراك المفاهيم والنظريات الشاملة ينقلك لبعد آخر في تجربة التعليم حيث يربطك مع العلوم الأخرى وتتعلم منه كيف تبحث وتبني الفكرة بشكل قوي قادر على التنبؤ بالمشاكل التي قد يواجهها المستخدم وتقديم خيارات للحلول المتاحة لها بحيث تحتوي المشكلة حال وقوعها بأقل الأضرار. مثل هذا النمط في التفكير يتعدى تصميم الجرافيك ليشمل كل أفكار المنتجات والخدمات المطروحة في سوق العمل وكثير من النشاطات الأخرى سواء التعليمية أو الطبية التي يقوم أساسها على العلاقة بين مقدم الخدمة ومستخدمها. دراستي لهذه المادة في مرحلة الماجستير وتدريسي لها لاحقاً أضاف لي الكثير شخصياً وفي كل مرة يفاجئني بتطور الأمثلة في هذا المجال والإضافات لتطبيقاته المختلفة التي أتمنى أن أجد عليها وفرة في الأمثلة المحلية. أشعر بالسعادة عندما أتحدث عن هذه الأفكار الجديدة ومازلت أذكر كم تمنيت أن أعرف عنها أكثر وأنا في مرحلة التخصص لكن الحمدلله أن العلم ليس له وقت محدود والحمدلله أنني أرى اليوم ما كنت أتمناه لنفسي يتحقق لطالباتي 

الخميس، 9 أبريل 2020

معلم قيد التعلّم: وظيفة غير قابلة للتصوير

منذ القدم انتشرت تخصصات الطب والهندسة بسبب إيمان الأهالي بقيمتها ودفعهم أبناءهم الإلتحاق بها لما لها من أثر واضح ملموس اجتماعياً و على الصعيد المهني. اليوم وأنا أقلب صفحات التواصل الإجتماعي وأقرأ في المعرفات التي أمر عليها غالباً بالصدفة أجد تنوعاً هائلاً في المسارات الوظيفية على الرغم من أن التخصصات السابقة لاتزال تحمل نفس القيمة لكنها لم تعد الوحيدة على الأقل. 
هذا التنوع الحاصل بسبب الإنفتاح الرقمي الذي دعانا لإستحداث مسميات وظيفية لم تكن يوماً بالحسبان وثورة وسائل التواصل الإجتماعي التي أثبتت جدارتها في مجال الأعمال فرضت على الجميع الإستعانة بالمختصين - غالباً لاعلاقة لإختصاصهم بالشهادات التي يحملونها - وغيرهم من المؤثرين في هذه المواقع لأخذ المشورة أو زيادة الأرباح بطريقة أو بأخرى. 


المكانة الإجتماعية في زمن المتابعين 


يدور هذا الموضوع ببالي منذ فترة ومع الأوضاع الحالية التي نعيشها بسبب فيروس كورونا الجديد أصبح واضحاً جداً بالنسبة لي تأثير وسائل التواصل الإجتماعي ليس فقط علينا كأفراد بس على مستقبل الوظائف التي قد يرغب الجيل الأصغر بالإلتحاق بها مستقبلاً، وهنا أسأل ماذا لو لم تكن وظيفتي قابلة للتصوير؟
هل يؤثر هذا على مكانة الوظيفة نفسها وإحساس الشخص بالراحة والإنجاز؟ إلم تتح الوظيفة التي يقضي الشخص فيها معدل ٦ ساعات يومياً محتوى للنشر في وسائل التواصل ولم تعكس كونه شخص محبوب وناجح في وسطه أو تبين لنا مدى ذكائه وتميزه مهنياً إلم توفر له لقطات قابلة للتصوير بدءاً من استخدامه للمصعد أو شربه لقهوته أو حديثه مع زملاءه؟ بمعنى آخر إلم تساعده هذه الوظيفة أن يحصل على التقدير الإجتماعي والوظيفي وتوفر الفرص الذي نترجمه اليوم بعدد المتابعين والمعجبين والتأثير الإلكتروني هل سيؤثر هذا على مكانته اجتماعياً أو رغبته في الحصول على هذه المهنة؟


التعليم أساس كل المهن. لكن؟ 


لعلي أفصل هنا عن مهنة التعليم الجامعي التي أتساءل كثيراً عن كيفية تقدير قيمة النجاح فيها وعن مستقبلها اجتماعياً. يأتي هذا التساؤل مع التحول الرقمي الحالي الذي شهد التعليم منه النصيب الأكبر ورغم إعجابي بالجهود المبذولة والقادة الملهمين خلف الستار وسرعة استجابة أفراد هذه المؤسسة للتغيير إلا أنني أجد ردود الفعل السلبية منتشرة في كل مكان حول المعلمين وجودة التعليم بشكل عام ورغم الإشادة بمختلف الوظائف الأخرى في هذه الأزمة إلا أن نصيب التعليم منها كان الأقل حظاً. 

يخيل لك أن التعليم مهنة من لامهنة له وينعكس هذا سلبياً بأثر ملموس نلاحظه بدءاً من تعاملنا مع الطلاب الذين يمثلون الشريحة الأكبر من المستفيدين من هذه العملية إلى الصورة النمطية المنتشرة في وسائل التواصل الإجتماعي عن المعلمين الذين لا يملكون الخبرة الكافية. يخيل إليك أن كل شخص يمكن أن يصبح معلماً ويتناسى الكثير عظم حجم هذه المسؤولية وأثرها الذي لمسناه على مختلف الأزمان. لا أريد أن أسرد فضل المعلم أو أذكر بماحفظناه منذ زمن عن هذه المهنة لكنني أتساءل عن قيمتها في مجتمعنا اليوم؟ وغيرها الكثير من الوظائف والتخصصات التي لاتشبه الهندسة والطب في وضوح مخرجاتها وإنما تنتج قيمة فكرية وتعلم أسلوب ومنهج بحث قد يغير من شخص للأبد.

أتحدث هنا وأفكر بكل المعلمين الرائعين الذين غيروا طريقة تفكيري منذ مراحل التعليم المبكرة، وجهوني لإهتمامات لم يخطر ببالي أنها لي ولمسوا تميزي وأسدو لي النصح حينما اعتقدت ألا مخرج مما أنا فيه. لاأزال أذكر كلمة إحداهن لي حينما انتهيت من أول محاضرة لي بداية تعييني حينما قالت: هو تكليف لا تشريف. هذه الكلمة أحفظها عن ظهر قلب منذ ذلك الوقت ولا أزال استحضرها بشكل دوري خلال عملي. هذه النماذج لاتزال بيننا ممن جعل على عاتقه شرف المهنة وحمل الأمانة لما هو أبعد من إنهاء المنهج أو رصد الدجات وأرجو أن أكون أحدها ممن ترك الأثر في صنع الإنسان ولو بشيء بسيط.

المشكلة من الداخل 


لعل جزء من المشكلة يكمن في بيئة العمل وطريقة إعداد المعلمين لهذه المسؤولية فالطريقة الحالية تعتمد بشكل كبير على التعلم بناء على خبراتك السابقة وخبرات من حولك من زملاء العمل. بعض الورش وجزء من التقييم الذاتي لماتفعله لكنني أجد نقصاً كبيراً في إعداد المعلم وتسليحه باستراتيجيات وأساليب التدريس ووضع المناهج والتعامل مع الإختلافات الفردية بشكل مفصل. 
الجهود مبذولة لكن مالم يكن هناك إهتمام شخصي بالحاجة للبحث أكثر فمايقدم ليس بكافٍ أبداً لإعداد المعلمين لمسؤولياتهم. إضافة لذلك حجم المشاغل والمسؤوليات الإدارية التي لاتدع لك مجالاً للبحث أو التعمق في مواضييع مشابهة وتركز على أولويات أخرى وأذكر هنا شيئاً قرأته عن غازي القصيبي في كتابه حياة في الإدارة حينما تحدث عن هيكلة الترقيات في التعليم الجامعي وأثرها السلبي على استعياب المعلم لمهنته الأساسية؛ التعليم! 

ماذا عن المستقبل؟ 


هناك العديد من الأبحاث التي تتحدث عن مستقبل التعليم وماقد نشهده يوماً ما من روبوتات تحل محل الأشخاص في هذا المجال، إن كنا نتحدث عن دور المعلم فمن وجهة نظري أن دوره يتعدى إيصال المعلومة أو شرح المادة إلى توسيع الفكر وصقل الإنسان بفتح مداركه على آفاق لم يفكر فيها قبلاً وتغيير الصورة النمطية المتعلقة بهذه المهنة لن يحدث ببساطة بل ويحتاج لدماء جديدة ورموز ملهمة لديها رؤية تتعدى إتمام المهام على أكمل وجه وإن حلت الآلة محل المعرفة فلا يمكن أن تحل محل التعليم.  



الثلاثاء، 19 نوفمبر 2019

أسبوع التصميم السعودي - قراءة ناقدة

الأحداث الفنية المتعلقة بالتصميم فرصة للمصمم المتعطش الذي يصعب عليه أن يجد مجاله المتخصص بين ضجة الفن والإهتمام بالرسم والعمارة وأنواع المنافسة الأخرى وفي كل مرة يقام حدث فني في المنطقة يبدأ الحديث عن التوقعات والضيوف وورش العمل وينطلق التخطيط لرحلة فنية مشوقة.

الأسبوع الماضي كان لي فرصة حضور أسبوع التصميم السعودي في الرياض وهي السنة السادسة على التوالي لهذا الحدث ورغم أنّ الجهة المنظمة تغيرت على مر السنين إلا أن طبيعة المشاركات حافظت على نمط معين. 
منذ بداية الإعلان عن الحدث كنا ننتظر بفارغ الصبر أنا وزميلاتي الإعلان المفصل عن ورش العمل والمتحدثين ولأننا من منطقة أخرى فكان يجب علينا تنسيق الوقت منذ فترة مسبقة. للأسف لم يعلن عن التفاصيل إلا في فترة قريبة جداً ومن هنا بدأت خيبة الأمل.
قمت بتحديد الفعاليات المثيرة للإهتمام بالنسبة لي والمتحدثين الذين أرغب بالإستماع لهم وكان أحد الأسباب لحماسي لهذه السنة وجود مشروع مشارك في المعرض لإحدى الخريجات اللاتي حظيت بفرصة تدريسها. المشروع كان رائعاً وربما الأفضل في رأيي المتواضع. 
نعود للحدث، منذ الوهلة الأولى لدخولك للمكان تشعر أن هناك شيئاً مفقوداً يعطي طابعاً للمشاركات. هناك العديد من عروض المجوهرات والعباءات، بعض من الأثاث، القليل من المشاريع الهاوية للإكسسوارات، النظارات والأقل منها مشاريع لها أهداف إنسانية مثل تحويل رسومات أطفال التوحد لمنتجات جزء من ريعها ربحي. ينضم لهذا بعض المشاريع الجيدة مثل إفريز ومشروع آخر لاأذكر اسمه لنحت عتبات الباب من الإسمنت بطريقة مبتكرة. 

ما علاقة كل هذا بالسعادة؟

السعادة كان موضوع هذه السنة وفي مقطع صوتي لإحدى المشاركات في الحدث عبرت أن سبب اختيارهم له هو ماتمر به المملكة من مشاريع طموحة وتسارع إيجابي في التطور. 
نأتي لتطبيق هذا المفهوم بشكل حرفي أكثر داخل المشاركات. كان هناك عدد من “التجارب” أو المعارض المصغرة المشاركة التي يفترض أن تعطيك شعوراً محدداً عن معنى السعادة، مالايقل عن ثلاثة منهم تُرجمت فكرتهم عن السعادة بالألوان. بكل بساطة مجموعات لونية موزعة في المكان بأساليب مختلفة تمر من خلالها، تحس بشيء ما، ثم تخرج لتتحدث عن هذا الشعور أو توثقه.
بالنسبة لي، سطحية تامة في بحث الموضوع وكمتخصص في تجربة المستخدمين والمعارض أصبت بخيبة أمل شديدة من ضعف المحتوى. الشكل الخارجي والخامات والجماليات المستخدمة في تنفيذ الأفكار يبدو أنها على درجة عالية من الكفاءة، جذابة، قابلة للتصوير ومفعمة بالألوان. لكن عندما تنظر للفكرة تجد أنها تفتقر للبحث الجيد والأساس العلمي، مبنية على الإحساس والإجابات المبدئية. ورغم أن هذا الحدث يفتح أبوابه للمشاركين من مختلف الخلفيات إلا أن أسماء العارضين تتكرر سنوياً وكأنك في تجمع لأصدقاء الثانوية. 
كنت أعتقد أن سماعي للمتحدثين سيعوض النقص في المحتوى، لكن مع الأسف المكان لم يكن مهيأً للإستماع، الضوضاء من حولك والمحتوى غير معد بصورة جيدة ناهيك عن إدارة الحوار الهاوية.

المحتوى أولاً!  

لو كان هذا الحدث موجه لعامة الناس لكان هذا المستوى مقبولاً، لو كان معرضاً لأصحاب المشاريع لعرض بضائعهم أو التعريف بالفن للهواة لمرّ الموضوع ببساطة، لكنه حدث موجه للمصممين المتخصصين يحمل اسم السعودية ولم أجد فيه مايعكس اسمه. 
حضوري لهذا الحدث جاء بعد حضور لفعالية تنوين في إثراء المنطقة الشرقية، للأسف أجد المشاريع الفنية المشابهة في المنطقة ورغم أن هناك جهود جبارة خلفها إلا أن سوء إدارتها وافتقارها للرؤية الصحيحة ينعكس بشكل واضح في مستوى مخرجاتها. 

علينا أن نتفق على حقيقة أنه ليس كل صاحب مشروع ناجح هو عارض جيد أو متحدث جيد لذا فإنّ وضع الأشخاص في أماكنهم الغير مناسبة هو سوء تخطيط وإدارة من صاحب الحدث. وإن كان المشروع جيداً فإنه يفقد قيمته بسبب سوء الطرح. 

اللعب/السعادة أنماط دارجة 

كيف يمكن للمصمم أن يفصل نفسه عن العالم بكل هذه البساطة؟ بينما يمر العالم بما فيه السعودية بتحديات قوية لبناء المستقبل نتجه للتفكير بهذه السطحية عن التصميم وكأنه لاعلاقة له بمايدور في الكوكب؟ ماذا عن التحديات المجاورة؟ أعجبني أحد المتحدثين في تنوين ورغم أنه دُعي للتحدث عن اللعب فقد كان يسرد قصة تفاعله مع اللاجئين واستخدام الفن لدعمهم مادياً في مشاريع تنموية كالتعليم مثلاً. متحدث آخر كان يناقش أهمية الفن التراثي مثل مسارح العرائس في توثيق التاريخ وإيصال الثقافة العميقة بصورة سلسة للأجيال الأصغر. وهنا أذكر حديث عميد كلية العمارة في جامعة لندن للفنون عندما طلب منه الكتابة عن انتخاب ترامب وقرارات الهجرة واللاجئين الذي تزامن مع إطلاق عدد من المجلات المعمارية لأسماء المشاريع الفائزة بأحد الجوائز السنوية. كان يقول في حديثه أن الهدف الأساسي من العمارة هو إيجاد حلول قابلة للتطبيق لتسهيل حياة الناس والإستجابة لقضايا معاصرة مثل الحاجة المستمرة للتنقل والحروب وغلاء السكن. هذا الهدف الذي يختفي تماماً عندما ننظر للمشاريع الفائزة تصور العالم بإيجابية مثالية وتقنيات مذهلة تفصل العمارة عن الواقع. 
التصميم قضية إنسانية جوهرية عميقة لكنني مع الأسف أجد قوتها في التاريخ ولم أجد لها منصة محلية حتى الآن تعكس قوتها بالشكل المطلوب، ورغم وجود الدعم المادي والأسماء الكبيرة والسنوات العديدة من الخبرة إلا أنّ افتقاد الرؤية والتخصص يؤدي لما نشاهده اليوم من مشاريع سطحية. 
أخطاء لا تغتفر مثل توزيعات بجودة سيئة وأشياء بمقاسات عجيبة لافائدة لها ستنتهي غالباً على الرف أو في سلة المهملات تعطيك تصوراً عن حجم المال المهدر في مثل هذه المشاريع ما يجعلك تتساءل أين المشكلة؟ 
وكي أنصف الجهود، كان هناك عدد من اللقطات التي يشكر عليها الحدثان مثل تنوع المتحدثين في تنوين وورش العمل الكثيرة، اختيار المنطقة في الأسبوع السعودي للتصميم والفعاليات المصاحبة لها وتوقيتها مع موسم الرياض.

النقد هو فرصة للتطوير 


هذا النقد ليس هدفه التجريح أو التقليل من قيمة الجهد خلف الحدث لكنّ المجاملة والتمجيد الذي تشهده وسائل التواصل الإجتماعي لا يعكس الواقع ويحتاج لإعادة النظر حتى نصل لمستوى فني جدير بالإشادة محلياً. وبودي لو تقام حلقة نقاش حول الموضوع أو أن يتم استقطاب نماذج ناجحة من المنطقة لوضع الأساس لمثل هذه الفعاليات وبإمكانك عزيزي القارئ البحث في مستوى أسبوع التصميم في دبي وفعالية نقاط في الكويت كي تتضح لك الريادة التي أعنيها بشكل أكبر. 

السبت، 16 مارس 2019

معلم قيد التعلّم: حول دور المصمم في التغيير

في نهاية الأسبوع قمنا بطرح سؤال عن دور المصمم في تغيير العالم. قد يخطر للبعض على الفور أن أي إنسان يجب أن يساهم تخصصه في تغيير العالم وأن يضع لنفسه هدفاً واضحاً وخطة تصل به لهذا التغيير. 
هل يجب على الإنسان التفكير بهذه الطريقة؟ هل التغيير يجب أن يكون من خلال تخصصه؟ هل زكاة علمه محصورة في التغيير؟ كيف نعرف التغيير أساساً وعلى ماذا نقيس نجاحه أو فشله؟ 

العديد من الأسئلة الجوهرية والفلسفية التي تتداخل أجوبتها مع فهمنا للدين، للأخلاقيات والقيم وطريقة استيعابنا للحياة. 
من وجهة نظري الموضوع شخصي جداً ولايوجد قالب واحد صحيح لتحيقيقه بل تجارب مختلفة قد يختلف أو يتفق معها السائل. تحدثنا مع طالبات التخرج عن هذا الموضوع وتطرقنا في البداية لتعريف التغيير وقياس نجاحه، هل يكفي أن أقوم بعملي بشكل جيد وأن أقنع شخصاً واحداً بأهمية التصميم هنا تحديداً في هذا المثال حتى أساهم في التغيير؟
المشكلة أن هذه الأهداف تخفت عندما تبدأ في  الإندماج في عجلة العمل، دوامة (العميل-التصميم-العرض) تشغلك عن القيم الأكبر ويصبح همك جذب العميل وإرضاءه لزيادة مصدر الدخل. البعض يكون محظوظاً بأفضلية اختيار الأعمال التي يرغب عليها والبعض يستطيع توفير وقت إضافي للعمل على مشاريع خيرية أو تطوعية لكن الأغلبية جزء من دوامة العمل التي تساهم باعتقادي سلباً في تغيير العالم. 
كمصمم جرافيك، جزء كبير من وظيفتك هو إقناع الناس بالاستهلاك، سواء من خلال تصميم الهويات التجارية أو الإعلانات وهذا بطريقة أو بأخرى هو تشجيع على الإستهلاك. 

ماهو الدور الذي تلعبه في عجلة التغيير؟
 سؤال آخر قد يوضح الأمر بشكل أبسط، فليس من المهم أن تكون القائد أو الوجه الإعلامي للفكرة أو المشروع، يمكنك أن تلعب دوراً ثانوياً باستشارة أو تنفيذ أو استثمار وقت أو مال وهذا مايجعل تحقيق التغيير أسرع  باشتراك أطراف مختلفة بأدوار مختلفة فيه. 

ماذا عن المعلم؟ 
سألتني إحدى الطالبات، ماذا عنك كمعلم؟ هل يكفي أن تغيري في طالبة واحدة كي تساهمي في تغيير العالم؟ 
أعتقد أن هذا غير كاف. وعذراً فقد يبدو الكلام هنا سلبياً بعض الشيء لكنه حقيقي دون مجاملات. تغيير شخص واحد بالنسبة لي غير كاف حتى لو آمنا بنظرية الفوضى وتأثير هذا الشخص على من حوله. التغيير الحقيقي الذي أسعى له هو تغيير جوهري ينتهي بأصحاب القرار من سياسين وإداريين قادرين على التأثير على سلوكيات يومية حتى البسيط منها والتي تنتهي بتغيير أفضل للعالم بصورة سريعة. التأثير الإيجابي مثلاً على طالباتي في الجامعة يعتبر تأثير في طبقة متعلمة حظيت بفرصة أكاديمية ممتازة والفرص المتاحة لها بعد ذلك هي مرفهة نوعاً ما ولا تعتبر مقياس للمجتمع البتة. خصوصاً وأن عدد الطالبات في الكلية تحديداً قليل جداً مقارنة بعددهن في الجامعة وفي المنطقة تبعاً وسيأخذ الموضوع سنوات قد لا أعيش لأرى نتيجتها. أعتقد أن التأثير الحقيقي الذي يساهم في تغيير العالم هو في إيصال مثل هذه التجربة التعليمية لمن هم أقل إطلاعاً ممن لديهم ميول للتخصص ولم تتح لهم فرصة تعلمها لأسباب مختلفة. وقد تتفاجئ بأن الحلول لتحقيق هذا الهدف بسيطة جداً يتمثل بعضها في توفير الإنترنت و تعلم البرامج التطبيقية. 
بالطبع هذا التفكير لن يؤثر على سعيي في إلهام الطالبات وتوجيههن لأنّ هذه الفكرة هي جوهر ماأقوم به، لكن يمكن القول بأنني أثق بقدرة طالباتي على النجاح بالأدوات المتاحة لهن وأنني أسعى لأكثر من هذا.  

قوة التغيير اليوم 
العالم اليوم يعطينا الكثير من الأمل في جهود فردية تكاتفت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي على سبيل المثال ونجحت في إحداث تغيير حقيقي في هذا العالم بمساعدة شخص أو تحسين جودة نظام أو تغيير مسمى حركة أو غيرها. هذا النموذج من التغيير هو الأكثر انتشاراً لكنه ليس الوحيد وربما يلخص إمكانية الأثر الحقيقي بين خيارين. إما الوصول لصاحب القرار أو جمع حشود المؤيدين من مختلف الخلفيات وخلق قضية رأي عام. 

كيف أساهم في تغيير العالم؟
 سؤال يجب على كل طالب علم طرحه في مراحل مختلفة من رحلته في التعلم، عليه أن يحد تعريفات مناسبات لشخصيته وتفضيلاته في العمل والتعامل مع الناس ومن الطبيعي أن يختلف تعريفك بناء على ظروفك وقت طرح السؤال، فما تعتبره اليوم ضرورة قد يكون غداً مجرد فكرة عابرة. المهم أن تجرد جوابك من المثالية وتفكر في مشاريع تطبيقية يمكنك العمل عليها يوماً بيوم حتى تصل للهدف الأكبر

السبت، 2 مارس 2019

معلم قيد التعلّم: تجربة تدريس المرسم

"ليست المسألة أن تحاول فرض إجابات معينة بل إن الإجابات ما كانت لتكشف عن نفسها إذا لم تثق فيها و تظل تعمل معها"
إيمي باكن

شغف التجارب الأولى 
خضت هذا الترم تجربة أولى في مشواري الأكاديمي حيث بدأت بإعداد منهج مادة المرسم أو استيديو التصميم لطالبات السنة الثالثة. لمن لايعرف، مادة المرسم هي المادة الأساسية التي يتناولها طالب التصاميم أو الهندسة بفروعها وتشكل ثقل ساعاته الدراسية ونجاحه فيها يعني احترافه لذا فهي تعتبر من المواد المهمة جداً في مشوارك الجامعي ويتم تخطيط باقي المواد كمحتوى وتسلميات على أساسها. 
تجربة تدريس هذه المادة أتاحت لي العديد من الفرص حيث أقابل طالباتي ٤ ساعات خلال يومين في الأسبوع مايعني متسع من الوقت لاكتساب مهارات جديدة بين محاضرات، ورش عمل، تمارين، تصحيح، نقد وعمل جماعي. ولا شك بأن هناك العديد من الخبرات من حولي ممن سبقني في هذا المجال لكنني أود الحديث هنا عن تجربتي في إضافة مواد علمية للقراءة في استديو التصميم.
عنوان هذا الترم هو الهويات التجارية والتعامل معها منذ التفكير بإنشاء النشاط التجاري حتى وصول المنتج للعميل ونركز تحديداً على جانب المطبوعات والهويات البصرية ونتحدث قليلاً عن الإستراتيجيات وغيرها من أمور ريادة الأعمال. 
لأنّ هذه المادة تدرس لطالبات السنة الثالثة فإعداد المحتوى يجب أن يكون أنيق جداً بحيث يستوعب مرحلة تكوين الشخصية كمصمم وفي نفس الوقت يتحدى مهارات الطالبة الحالية ليعدّها للنضج المطلوب للمراحل الدراسية التالية. أحببت أن أدرج ضمن المنهج مواد علمية للقراءة والهدف الأساسي هنا هو إعداد المصمم الناضج المطلع على أبعاد تخصصه من مختلف السياقات. أطمح أن تخرج طالباتي من هذه المادة ببصمة مختلفة تؤثر إيجابياً على توجيههن كقياديات في مسيرتهن المهنية لاحقاً بإذن الله ليس فقط كمصمم قادر على إنجاز المطلوب ولكن كمصمم مفكر واع بالمتغيرات من حوله. 


الإستهلاكية كبداية 
بدأنا الفصل الدراسي بحديث عن الإستهلاكية بين ناقد ومؤيد للحركة الرأسمالية وتبعاتها على وظيفة المصمم. دار بين الطالبات حديث شيق حول المبادئ والقيم واستغلال وسائل التواصل الإجتماعي لهذه الحاجة لزيادة البيع وإيجاد حاجة الشراء الملحة المستمرة. أكثر ماأعجبني في حوارنا عن الإستلاهكية هو اشتراك الأغلبية في نقدهم لمبدأها وفي نفس الوقت طرحهم لحلول كمبدأ لكسب العيش دون الحاجة للخروج عن التيار. تحدثنا عن آثار هذه العجلة على البيئة والمجتمع وعن سبب تأخر وعي الناس بآثارها وأساليبهم المبتكرة للتخلص من شعور المسؤولية تجاه المشاركة في خلق مثل هذا النوع من الحركات. كمصمم يبحث عن مصدر رزق في سوق العمل الحالي، هذه الحركة هي المحرك الأساسي لزيادة الطلب على التصميم فمع زيادة البيع يزداد الطلب على الهويات والدعاية وغيرها من التصاميم ولعل فهم هذه الدوامة يوازن بين خيارك في المشاركة فيها وبين مبادءك المتعلقة بأخلاقيات التصميم.


قيمة الفن في زمن الإستنساخ 
نقاشنا التالي تطرق لقيمة الفن في زمن التقنية الحديثة وقدرة الجميع على النسخ. طرحنا هنا وجهة نظر والتر بيجامين حول مبدأ الإستنساخ وقيمة العمل الأصلي في زمن يمكن للجميع فيه أن يشاهد الفن ويعيد إنتاجه دون أدنى جهد. ولأننا تحدثنا عن الإستلاهكية مسبقاً فقد قادنا الحديث هنا للتطرق للشيوعية والإشتراكية وأخيراً الديمقراطية وأثر مثل هذه الحركات على قيمة الفن والتصميم. 
هل يجب أن يكون العمل حصري حتى يكسب قيمته؟ كيف نوازن بين السعي للشهرة من خلال النشر وبين حفظ قيمة الأعمال من السرقة أو التقليد أو غيرها؟ كيف يمكن للفنان أو المصمم أن يحفظ حقوقه في زمن الإنتشار؟ 
طرحت أحد الطالبات مثال لوحة الموناليزا وأنه لا يمكن مقارنة رؤية صورة لها على الإنترنت بتجربة الإنتظار في الصف لإلقاء نظرة خاطفة عليها. قادنا هذا المثال لتعريف القيمة وفهم اختلافها من شخص لآخر وخلصنا إلى أن الموضوع يعتمد بشكل كبير على تفضيلات شخصية علاقة الفرد بالفن ابتداءً. 
أسئلة كثيرة دارت في نقاشنا وتركت لدينا أسئلة أكثر إثارة. في نهاية النقاش طلبت من الجميع أن يكتب سؤالاً وجد إجابته في الحوار وآخر لازال يبحث عن معناه وكانت النتيجة شيقة جداً.

المحاضرة الأخيرة 
نناقش الأسبوع القادم موضوعنا قبل الأخير ونتحدث فيه عن سياسات التصميم الثقافية ونعتزم على استضافة شخصيتين مؤثرة في مجال التصميم الجرافيكي في نقاشنا الأخير كي نتطرق لوجهة نظر سوق العمل في المواضيع التي طرحت غالباً من وجهة نظر أكاديمية ونختم به سلسلة نقاشاتنا لهذا الفصل.

هل لديكم تجربة أكاديمية مختلفة؟ شاركوني قصص وتجارب حول الموضوع 

السبت، 9 فبراير 2019

تهذيب النفس


كيف يمكن للإنسان أن يهذّب نفسه؟ سؤال يفضي لسلسة من الأسئلة تسبق المقصود وتتبعه ولعل الإجابة عليه قد تأخذنا في الأصل إلى فهم معنى التهذيب الذي نقصده في هذا السياق. التهذيب هو التربية والإصلاح وجعل الشيء سليماً من العيوب وتهذيب النفس لايختلف معناه كثيراً عن هذه الترجمة بل ويقاس عليها بشكل واضح.
ألحّ علي هذا السؤال من خلال تكرار النقاشات عن “جيل هذه الأيام” وعبء التربية الذي لا يستطيع المربّيين تحمله وحدهم وكثرة الدواخل والآراء المؤثرة على الشخص، وقد يكون هذا الأمر جليّاً في الأجيال الصغيرة التي لاتزال في طور النمو لكنّ مايشدني أكثر هو فهمه من منظور الأعمار الأكبر، سن العامل المربي الذي تجاوز مرحلة الدراسة. 

عندما تغيب الأم وينشغل الأب وتنتهي مرحلة الدراسة بمفهوم التلقي وتحضر وسائل التواصل الإجتماعي والمؤثرين من كل أصقاع الأرض بمختلف الثقافات والخلفيات الإجتماعية، كيف أحافظ على تهذيب نفسي؟


عندما طرحت هذا السؤال على الإنستقرام وصلتني إجابات كثيرة، جلّها ركز على الدعاء واللجوء للقرآن للحفاظ على النفس السوية، ولاشك أنّ هذا من أهم الأمور التي يبنغي الإشارة إليها. ولطالما اقتنعت أنّ فطرة الإنسان في الأصل جامحة تحتاج لقوانين وأُطر واضحة كي تستقيم وهذا المعنى لايتعارض أبداً مع قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" فالفطرة هي الإسلام والتهذيب والتربية هي الدرجات - الإيمان والإحسان- وبالطبع نطمح لأعلاها.  
أعجبني بعد البحث أن عدداً كبيراً من الكتاب تطرق لهذا الموضوع ويبدو أن هذا الأمر قد شغل الأزمنة بمختلف ملامحها وكانت الإجابة تقريباً متشابهة في كل مرة رغم اختلاف السياق. ابن المقفع على سبيل المثال عندما سُئل "من أدّبك"؟ قال: "نفسي. إذا رأيت من غيري حسناً آتيه، وإن رأيت قبيحا أبَيْته" ولعل هذا يعيدنا للمعنى القرآني في تفضيل النفس الأوابة التي تراجع إيمانها وتجددالأصل. ولاشك أنّ للصحبة تأثير كبير على حرص النفس على التوبة والتذكير بالهدف من الحياة "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ" وهذا الأمر يدعوني للتفكر، هل حلّت وسائل التواصل الإجتماعي اليوم بديلاً عن الصحبة؟


اختر العزلة

إذا كنّا نعتقد أن الصحبة هي العلاقات التي تقضي معها وقتك وتستمع لها وتصغي لنصحها فهل أصبح مؤثرين مواقع التواصل الإجتماعي ومشاهيرها هم "الصحبة"؟ قبل أيام قرأت احصائية عن استعمال الشباب في هذا الوقت للإنترنت وعلاقة الإنجاز الحقيقي بما يتم نشره، وبصورة غير صادمة البتة فإن هذا الزمن هو أكثر العصور التي تم الإحتفال بها عبر الإنترنت دون إنجاز فعلي موازي على أرض الواقع. وهنا تجدر الإشارة لما ذكره مايكل هاريس في كتابه العزلة بأنّ الوقت الجيد الذي يقضيه الإنسان مع نفسه هو المقوّم الأساسي لسلوكه وذاته، وهنا يقصد الفصل التام عن أي جهاز أو تقنية أو صوت خارجي وليس فقط الجلوس وحيداً مع هاتفك بدون صحبة. هو يعرّف التهذيب كعزلة ويعتبر هذا الوقت من أهم العوامل التي توصل الإنسان لنضجه الداخلي وفهمه لنفسه والعالم من حوله.
هذه الطريقة في اعتزال العالم الإفتراضي أصبحت هبة في الآونة الأخيرة "ديتوكس السوشيال ميديا" وأعتقد أن فكرتها جيدة لكنّ التطبيق يحتاج لمراجعة. لو افترضنا أن الهدف الأساسي هو تنظيم الوقت والإنشغال بالمفيد والتركيز على تحسين جودة الحياة واللحظات الحقيقية فيها فهل يحتاج الإنسان أن يعتزل مايزعم أنه سبب الفوضى في حياته لمدة شهر على سبيل المثال ثم يعود لنفس الروتين السابق وكأنّ شيئاً لم يكن؟ هل هي جرعة سنوية أم أن المراد يتحقق بالتربية اليومية لتقويم سلوكنا نحو هذا الموضوع؟ للإجابة نعود لتهذيب النفس من منطلق ديني كما بدأنا، لو أنك تعتزل الدنيا وملهياتها وكل مايشغلك يومياً خمس مرات تفصل فيها عقلك عن الدنيا لتركز على روحك وقيمتك المعنوية بالدعاء وطلب الآخرة كما يحدث عند أداء فروض الصلاة لكفى ذلك كنوع من المراجعة والتأمل الذي يشحن طاقتك للإستمرار في فوضى الإنشغال، لتحقق المراد من جرعات العزلة. لكننا نبحث عن حلول خارجية نحقق فيها التصالح الذاتي دون التفكير فيما بين أيدينا من أدوات ونعِم.  


"أنظر لنفسي من الخارج وأستطيع أن أرى كل شيء في مكانه الصحيح وعندما لاأرى ماأردت لها أن تشبهه أعود فأصلح الأمر. لأنني أهذب نفسي بفضلها، وأعيش مقلداً لهه وماأريد الوصول إليه بتقليده مؤمناً أنني سأكون هو في أحد الأيام أو سأكون مثله على الأقل وأعيش على هذا الأمل” 
- أورهان باموق 


حل أوسط

لاشكّ أن مايحيط بك سيؤثر بك وخصوصاً مانسمع ونرى في أوقات استرخاءنا عندما يكون عقلنا اللاواعي في وضع التخزين وهو تقريباً مايضيع به وقت طويل من يومنا لذا ولأقل الضرر، أحط نفسك بمن تطمح أن تكون مثلهم ومن يلهمك نجاحهم بعيداً عن الماديات والإعلانات التي غزت هذا الزمن ووصلت لكل بيت وفرد كما لم يفعل زمن من قبل وأغرقتنا في الإستلاهكية بشكل وأعتذر على هذا اللفظ ولكن عليّ القول بأنه مقزز. لايمكنك تصفح أي شيء من دون أن تستمتع لإعلان أو غيره ممن يحثك بطريقة في غاية الإبتذال للشراء ويقنعك بأنّ هذا يستحق مالك وينتهي يومك وأن تدور في حلقة مفرغة توهمك بحاجتك لأشياء لا تمتلكها وتحيك على السعي لنيلها وتجعلك في حالة دائمة من الإنزعاج وعدم الرضا عندما تعجز عن توفيرها!


هل أعزل نفسي عندما أهذبها؟ 

ترفعك عن الدنيء وعدم معرفتك بصيحات الموضة وسكتشات اليوتيوب وترند الكلجات بالطبع لن يزيد من شعبيتك الإجتماعية وسواء اعترفنا بهذا الأمر أم أنكرناه فإنّ إثبات أنفسنا في دوائرنا الإجتماعية مهما اختلف قطرها ضرورة من ضرورات الحياة وتهذيب النفس الذي أتساءل عنه هنا لايعني أنّك لن تكون ظريفاً أو ذو شخصية محبوبة أو أنك ستقضي وقتك في الأمور الجدية فقط، فلابد في النهاية من الموازنة والترويح عن النفس ولكن لكل شيء قدر والإفراط الحالي يشدنّا لنتيجة لاتظهر علاماتها حالاً وهو الأمر المخيف حقيقة. ربما يكون الحلّ في هذه المرحلة من الإفراط أن نتجه للتشدد ثم التخفف تدريجياً حتى نبدأ برؤية النتائج وكما نعرف "التخلية قبل التحلية" ولايمكن أن تغرس قيماً جميلة عندما لاتفهم معنى القيم بالأصل. 


الإسلام يهذبنا 

أعظم ماتقدمه لنفسك هو فمهما، مالذي يزعجك؟يستثير غضبك؟ يسعدك؟ يحفزك على العمل؟ يضيعك عن الهدف؟ وكل شخص هو أدرى بذاته ومايؤثر فيها والخطوة الأولى في اعتقادي تجاه موضوع تهذيب النفس هو فهم مشاعرك وطريقة تعاملك معها.
في الوقت ذاته، وقتك هو أمانة وستسأل عنه فيما قضيته وهذه قضية جوهرية مخيفة حقيقة أن تقف بين يدي الله وقد أضعت عمرك في المشتتات ولعلها السبب الأكبر الذي يدعونا لطرح مثل هذا السؤال وإعادة التفكير والبدء في خطوات عملية نحو مفهوم التهذيب. 


الموضوع بالنسبة لي لازال شائكاً ويستحق البحث والنقاش لذا أسعد بآرائكم وأسئلتكم علّنا نصل لما يساعدنا في رحلة الإكتشاف 

كتب أنصح بها في الموضوع: 


الاثنين، 15 أكتوبر 2018

وداعاً -كيت-

الموت. الشبح الذي ندرك حقيقتة وجوده، نسمع عنه ونتناقل القصص عمن زاره ونؤمن به كيقين مؤكد في دنيا فانية لكننا لا نستوعبه حقاً حتى يزورنا بصورة قريبة. قريبة مفاجأة. قريبة مفجعة. 
توفيت البارحة زميلتي في العمل. معلمتي. ملهمتي. جارتي في المكتب. لاأعرف أي وصف أختار لها، كانت أشياء مختلفة متضادة ومتناغمة.. عرفتها منذ اليوم الأول لها في الدمام ومرت علاقتنا بمراحل مختلفة اختلفنا في كثير منها وتعلمت منها في كثير آخر. 

لقاؤنا الأول 

أذكر تفاصيل محادثتي معها عندما رأيتها للمرة الأولى، وأذكر شغفها في أول محاضرة عندما حدثتنا عن خلفيتها ومسقط رأسها وعملها في جدة في الجامعة وعلاقتها الممتازة مع طالباتها الخريجات.. انبهرنا بقصتها عندما سمعناها للمرة الأولى وضحكنا كثيراً بعدها عندما بدأت تكرر القصة في محاضرات أخرى.  

كانت تحب الحديث وتتقن أصوله، فعندما تبدأ بسرد موقف أو إسداء نصيحة تستطرد بالحديث وتنقلك من عالم لآخر بأسلوب لاتملك معه إلا الاستماع والإستمتاع. تتحدث دائماً من خبرتها وتملك تجارب لاتعد ولاتحصى. 
عندما بدأت بالعمل درست معها في أول ترم لي بالجامعة وكنت أتعجب من قدرتها على الارتجال حينما تباغت بموقف غير مخطط له أو سؤال خارج النص وكانت دائماً تملك حضوراً يضيف لخبرتها في الحديث فتبدو متأكدة جداً مما تقوله، وقد تكررت المواقف حينما تتحدث بحزم ثم تلتفت علي بابتسامة ساخرة تتبعها ب”لاأعرف مالذي قلته للتو”.. 
مداخلاتها المثرية في الإجتماعات وإضافاتها الأكاديمية المثرية لايمكن حصرها حتى أطلقنا عليها "queen of rubrics" لقدرتها على فهم وإعداد هذه المصفوفات بصورة متميزة. 

مؤخراً كانت جارتي في المكتب أطل عليها كل صباح وأودعها في نهاية اليوم، أسأل عنها وعن يومها ونتحدث عن الطالبات بشكل أو بآخر، عندما كنت مسؤولة في المعرض الترم الفائت لا أنسى لها مساعدتها لي في عطلة نهاية الأسبوع وتكبدها عناء العمل الإضافي بكل رحابة صدر وبمبادرة سأفتقدها حتماً.. 
مررت بها الأسبوع الماضي لأحدث طالبات إحدى محاضراتها وكنت أمازحها “لقد افتقدتك منذ انتقلتِ للمكتب الجديد، علينا أن نجد بعض الوقت لنمضيه معاً”… سأفتقدك الآن للأبد… 

رحمته وسعت كل شيء 

حزينة جداً.. وأكثر ماآلمني أنها رحلت دون أن تُسلم. أريد أن أطلب لها الرحمة، أن أجمع لها الصدقات، أن أفعل الخير باسمها دون جدوى.. لو عاد بي الزمن سأحدثها أكثر عن الإسلام، ورغم أنها كانت في غاية الإحترام لكل العادات والتقاليد ودائماً ماتتحدث بلغة راقية عن السعودية وهي أفضل من أعرف من الأجانب في لف “الطرحة" ولبس العباءة إلاّ أن كل ذلك لايكفي دون الشهادة.. وفاتها أثرت فيني كثيراً واتصلت مباشرة بزميلة لي في الغربة أحدثها عن الإسلام وأجدني أدركت بصورة مباغتة أن الحياة لاقيمة لها إلم تحتوي أثراً بهذه القيمة. 
منذ أن تلقيت خبر الوفاة وأنا أبحث عن جواب لهذا التساؤل، ماذا يمكنني أن أفعل لها؟ وأعرف أن رحمة الله واسعة وأعرف يقيناً أن الله أرحم مني ومن غيري بها وهو أعلم بقلبها وصالح عملها وأدعوه أن ينظر لمافي قلوبنا لعله يشفع لها ويخفف عنها في وحشتها.

-
يأتي هذا الخبر لاحقاً لخبر وفاة محمد بن رافعة الذي فجعت به من قريب وأجدني متأثرة جداً بهؤلاء الذين عرفت باغتهم الموت وباغت أحبابهم.. أسأل الله أن يربط على قلوبهم ويلهمهم الصبر والسلوان. 
-

حسن الختام وطيب المأوى 

أيامنا في هذه الدنيا محدودة، تكاد تختفي في غمضة عين ودون استئذان.. أعد النظر في علاقتك بربك تفقدها يومياً واطلب المغفرة، أعد النظر في علاقاتك بمن حولك وانظر لأولائك الذين يعنون لك حقاً، أكرمهم واقضِ وقتاً أطول معهم فلاتدري أي في أي ساعة سيحين أجلك.. 
اللهم احفظ لنا أحبابنا ولاتفجعنا في فقدهم وأحسن خاتمتنا في الأمور كلها…  

Mariam Abdulrahman

Feature Post